تجد تلك القصة التي ابتكرها أحد حكماء العرب القدامى مكاناً ثابتاً لها
في تراثنا وفي ذاكرتنا وذاكرة الأجيال التي سبقتنا .. الحكيم العربي قيل أنه المهلب
بن أبي صفرة وقيل أنه معن بن زائدة وقيل أنه الحسين بن علي الطغرائي .. وأكثر الروايات
شيوعاً أنه المهلب بن أبي صفرة الذي يُروىٰ أنه لما اشرف على الوفاة .. استدعى ابناءه
السبعة .. ثم أمرهم بإحضار رماحهم مجتمعة .. وطلب منهم أن يكسروها .. فلم يقدر أحد
منهم على كسرها مجتمعة .. فقال لهم : فرقوها .. وليتناول كل واحد منكم رمحه ويكسره
.. فكسروها دون عناء .. فقال لهم : اعلموا أن مثلكم مثل هذه الرماح .. فما دمتم مجتمعين
ومؤتلفين يعضد بعضكم بعضاً .. لن ينال منكم اعداؤكم .. أما إذا اختلفتم وتفرقتم ..
فانه يضعف أمركم ويتمكن منكم اعداؤكم ويصيبكم ما اصاب الرماح .. وقال لهم شعراً تتناقله
الأجيال :
كونوا جميعاً يا بني اذا اعترى ..
خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح اذا اجتمعن تكسرا ..
وإذا افترقن تكسرت افرادا
في الأسبوع الثاني من مايو عام 1990 م .. كان لي شرف اختياري من قبل قيادة
الجهاز المركزي للأمن الوطني ضمن كوكبة من ضباط الجهاز للتوجه إلى عدن للتنسيق مع الإخوة
في وزارة أمن الدولة والمشاركة في الترتيبات الأمنية اللازمة لإقامة الاحتفال الرسمي
وإعلان قيام الوحدة بين شطري اليمن ..
لقاءات مشتركة وترتيبات ومناقشات ونزول ميداني إلى ملعب الشهيد الحبيشي
سبقت اليوم المشهود الذي تم فيه إعلان قيام الجمهورية اليمنية الموَّحدة من حوف إلى
ميدي ومن كريتر إلى باقم ..
لقد أبدى أحد الإخوة الضباط من منتسبي وزارة أمن الدولة إندهاشه حين لاحظ
أن أسلحتنا الشخصية ( مسدسات ماكاروف الروسية الصنع ) .. وقال كنا نظن أن جميع أسلحتكم
في الشمال أمريكية الصنع .. وأنكم دولة رأسمالية التوجه ولا يمكن الاتفاق أو التوافق
معها ..
الوحدة .. الحلم الذي راود كل عربي نشأ وترعرع على هذه الرقعة الجغرافية
المسماة الوطن العربي ..
بلادُ العُربِ أوطاني . منَ الشّـامِ لبغدانِ . ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ
. إلى مِصـرَ فتطوانِ . فـلا حـدٌّ يباعدُنا . ولا ديـنٌ يفـرّقنا . لسان الضَّادِ
يجمعُنا ..
هذا الحلم الذي كنا نقرأ عنه في الكتب المدرسية ونتغنى به على أمل أن
نراه واقعاً مُعاشاً في حياتنا .. نمى وكبر معنا وظل حلماً حتى الثاني والعشرين من
مايو عام 1990 حين أُعلن قيام الجمهورية اليمنية من عدن ..
الوحدة اليمنية التي قال عنها العرب جميعاً عند تحقيقها بأنها النواة
الأولى لتحقيق الوحدة العربية .. الحلم الكبير ..
وأنا هنا أتحدث عن الوحدة اليمنية بعيداً عن السياسة .. وبعيداً عن المآلات
التي آلت إليها أو المسارات التي سارت عليها .. أتحدث عن الوحدة اليمنية كحلم وكفكرة
وكرمزية لكل يمني يحمل في قلبه اليمن الكبير ..
كان توزيعي ( أمنياً ) في مدخل المنصة الرئيسية التي يتوسطها الرئيس علي
عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض وكبار قيادات الدولة ..
وكانت إحدى فقرات الحفل تقضي بأن يتوقف العرض الشبابي والرياضي فجأة ويجري
مئات من الأطفال والزهرات من خلف صفوف الشباب يحملون في أيديهم علم الجمهورية اليمنية
والورود باتجاه المنصة الرئيسية وهم يصيحون بصوت واحد :
تحيا الجمهورية اليمنية ..
لقد بكى معظم الحضور حين رأوا ذلك المشهد ..
عدت من عدن أنا وزملائي الضباط وقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا مملؤة باليمن
الواحد الكبير .. يمن القوة والعزة والكرامة والعدالة الاجتماعية ..
وستبقى مشاعر اليمنيين وقلوبهم مفعمة بهذا الأمل ومملؤة بهذه الفكرة ما
دامت السماوات والأرض ..
ستبقى وحدة الأرض والإنسان اليمني في القلوب مهما عكَّرت صفوها أهواء
ورغبات واتجاهات الصراعات السياسية والأطماع الإقليمية والدولية ..
( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
)
صدق الله العظيم
اللواءالركن/جلال بن علي الرويشان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق