بقلم- محمد عبد الوهاب الشيباني
تحيل السيرة الحياتية(*) لعلوان سعيد الشيباني
- الذي توفي صباح الأربعاء 8 يونيو 2022م بأحد
مشافي لندن- إلى الكثير من ملامح التنوير التي تلازمت برحلة كفاحه الطويلة التي بدأت
باكراً منذ كان طفلاً في معلامة ( كُتَّاب) قرية (المدهف) بشرق بني شيبة مطلع أربعينيات
القرن الماضي، وتالياً بهجرته إلى الحبشة وهو على عتبة المراهقة في العام 1949م، وعودته
إلى عدن في العام 1954م للدراسة في مدرسة (بازرعة الخيرية)، ثم سفره إلى مصر بمنحة
مشتركة بين الاتحادين اليمني والشيباني، واتمامه للدراسة الاعدادية والثانوية في مدينة
طنطا ، ثم ذهابه ببعثة في العام 1962 إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته الجامعية
في مجال الهندسة المدنية، قبل أن يغيرها إلى تخصص اقتصاد وعلوم سياسية لأسباب قاهرة؛
كان التعليم هو الهاجس الأكبر والمشغَّل الرئيس
في هذه الرحلة الكفاحية الطويلة.
حين استقر المقام بعلوان سعيد الشيباني في مدينة
(ديردوا) الأثيوبية ،عاملاً بمطعم يمتلكه جار لهم في القرية يدعى علي محمد الهاشمي
وجاء برفقته إلى هذه المدينة، لم يكتف بما
حصل عليه من تعليم بدائي في "معلامة" (كُتّاب) القرية، بل ثابر من جديد وواصل
دراسته عند معلم يمني يقيم في المدينة، اسمه عبدالعزيز الصنعاني. صحيح أنه تعلم بذات الطرائق التقليدية في دروس القرآن
والخط والحساب، لكنه كان يرى، في كل الأحوال، أن التعليم وحده من سيصنع منه شخصاً آخر،
وليس "مطعم الطاؤوس" الذي كان، بالمناسبة، يوفر له دخلاً معقولاً و يتنامى بالتدريج، وكان
بمقدور هذا الدخل أن يغريه بسلك هذه الطريق السهلة التي تعيد اكتشاف ذاته كشخص تجاوز
فقره مثلاً، لكنه كان يرى طريق مستقبله بوضوح
، وهذه الطريق لا يمكن ان تُسلك إلى نهايتها إلاَّ بالتعليم.
لهذا، حينما عاد الهاشمي إلى ديردوا من رحلته
الأولى الى القرية، قرر علوان أن يقتفي أثر صديقه القريب عبدالله حسن العالم الذي ترك
المدينة الى القاهرة لمواصلة تعليمه فيها، وبدون أن يخبر غير شخص واحد موثوق، ركب القطار
الى أديس أبابا، آملاً أن يصل الى الخرطوم ومنها الى القاهرة، لكن أمره انكشف وتمت
اعادته بالحيلة مرة أخرى الى المدينة التي غادرها، بواسطة صديق للهاشمي (اكتمل) له
في محطة القطار في العاصمة الأثيوبية.
وحينما غادر ذات المدينة الى عدن في عام
1954، مُهرَّباً بطائرة قات، لأسباب تتصل بهويته،
لم يذهب الى مطعم خاله في الشيخ عثمان ولا إلى أي مخبازة أخرى يمتلكها أحد أبناء قريته
للعمل بها، وهو صاحب الخبرة في ذلك، بل ذهب مباشرة الى "نادي الاتحاد الشيباني"
في حي "الطويلة"، وواظب على الدراسة صباحا على يد السيد عبد القادر عبدالله
في "نادي الإتحاد الشيباني"، وبعد العصر عند الاستاذ علي عبدالعزيز نصر في
"الإتحاد اليمني"، وبعد المغرب على يد السيد محمد عبدالله طاهر والد الدكتور
الراحل يوسف محمد عبدالله في مسجد بانصير في
كريتر، حتى يهيئ نفسه للدخول إلى مدرسة للتعليم الحديث.
وفي
العام الذي يليه التحق بمدرسة بازرعة في منطقة
العيدروس في سنة أولى متوسطة، رغم بلوغه الثامنة عشر من عمره، ولمستواه المتقدم تم
ترفيعه فصلين اضافيين، ليتجاوز المتوسطة بعام واحد ، ولاجتهاده ومثابرته تم ابتعاثه
ضمن ثلاثة شبان من المنطقة في صيف 1956 للدراسة في القاهرة على حساب "نادي الاتحاد
الشيباني" بالتنسيق مع "الاتحاد اليمني".
في
مدينة طنطا أكمل دراسة المتوسطة في مدرسة محمد فريد، والثانوية في المدرسة الثانوية
في العام1960 بتفوق، ليترشح لدراسة الهندسة في جامعة عين شمس، وحين لم يستطع المواصلة،
لم يستكن أو ييأس ويعود الى عدن، بل ثابر في الحصول على منحة الى الولايات المتحدة
الامريكية، فكان له ما أراد فوصل في صيف 1962، أي قبل قيام ثورة سبتمبر بقليل، والتحق
في جامعة كنساس كطالب هندسة مدنية، بعد أن بقي في القاهرة لأكثر من عام يقوم بتدريس
الطلاب اليمنيين المقبلين على الالتحاق بالمعاهد والمدارس المصرية.
بعد أقل من عامين، من وجوده في جامعة كنساس،
انقطعت منحته المالية، لأسباب سياسية تتصل بموقفه المناهض لسياسات الولايات المتحدة
الأمريكية الداعمة لإسرائيل، فطلبت منه الجامعة
المغادرة، وحين التزم أحد أساتذته لعميد الطلبة الأجانب بدفع الطالب لرسوم الدراسة،
اضطر ،علوان الشيباني، للعمل في مطعم ملحق بفندق "هولدي إن كنساس" لتوفير
قيمة الرسوم الدراسية، مبدِّلاً تخصصه العلمي من هندسة مدنية الى اقتصاد وعلوم سياسية.
الآن،
وبعد أكثر من نصف قرن على تخرجه من جامعة كنساس، وبعد أن صار ذلك الفتى رجل أعمال كبير ويراس مؤسسة خيرية رائدة اسمها "مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية"
ولها مشاريعها التعليمية والتدريبية والطبية والإنسانية والاجتماعية في القرى والأرياف
الفقيرة، وتشارك في الوقت نفسه في أكبر المحافل والمنتديات المحلية والدولية التي تهتم
بالأعمال والمبادرات المجتمعية المتميزة، بهدف تبادل التجارب ونقل صورة واقعية عن هموم
وتطلعات اليمن في الجانبين التعليمي والإنساني، غدت احدى مشاغله الكبرى هي الاهتمام
بالتعليم، بوصفه حجر الزاوية في التنمية المستدامة، في بلد لم يزل فيها الجهل يقطر
وعي النسبة العظمى من سكانها. لهذا، عمل على تأسيس معهد تعليمي يحمل اسم "الخير" أيضا في منطقة تتوسط
ثلاث عزل، حيث يسهّل هذا المعهد للطلاب الفقراء والمعدمين في هذه العزل وقرى أخرى بعيدة
الاستمرار في التعليم، ويشجعهم، من خلال الحوافز التي يقدمها للطلاب، على تعلم اللغات
ومهارات الحاسوب في سنوات ما بعد التخرج من الثانوية، التي هي السنوات الأصعب التي
صارت عند المئات سنوات تسرب من دورة التعليم.
من هذا التفصيل والاستطرادات، نريد الوقوف على
حقيقة جلية، وهي أن الطالب الفقير الذي كانه علوان الشيباني قبل سبعين سنة - في الحبشة
وعدن وطنطا والقاهرة وكنساس- واستطاع بكثير
من المثابرة والاجتهاد وتحمل المشاق أن يصير رقماً فاعلاً في المجتمع، هو نفسه الآن
رجل الأعمال الجليل الذي يرى في تعليم الفقراء والمعدمين والمهمشين من أبناء منطقته
وغيرهم من المناطق واجباً أخلاقيا بدرجة رئيسية، يمليه عليه ضميره المطمئن وليس دوافع
الشهرة وحب الظهور، التي تحكم العشرات من رجال الأعمال الميسورين في البلد.
ولهذا الغرض أنشأ مؤسسة خيرية ومعهد تعليمي لدعم
التعليم والطلاب المتفوقين في أكثر من محافظة يمنية، وفي مناطق نائية.
(*) تتبع لجوانب مختلفة من سيرة حياته الملمومة
في مسودة عنوانها (الحياة كما عِشتُها) اطلع
عليها الكاتب.
(**) المادة منشورة اليوم في منصة (خيوط) بصيغة ماقبل الرحيل الفاجع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق